أن الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» هو حديث مكذوب وضعه أنصار الخلفاء لتأييد وتبرير ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان من حرق الأحاديث النبوية ومنع السنة من الانتشار. ومما يزيدنا يقينا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن كتابة الأحاديث عنه بل إنه أمر بها، هو ما قاله الإمام علي أقرب الناس للنبي: «ما كتبنا عنه غير القرآن وما في هذه الصحيفة» والذي صححه البخاري.
واليك عزيزي القارئ الدلائل المنطقية على ذلك و من خلال الاستشهاد بكتب اهل السنة اذ
غفل الوضاعون الكاذبون عن الأمور التالية:
أ: لو قال هذا الحديث صاحب الرسالة لامتثل أمره الصحابة الذين كتبوا عنه ولمحوه قبل أن يتولى أبو بكر وعمر حرقها بعد سنوات عديدة من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ب: لو كان هذا الحديث صحيحاً لاستدل به أبو بكر أولا، ثم عمر ثانيا، لتبرير منعهما كتابة الأحاديث ومحوها، ولاعتذر أولئك الصحابة الذين كتبوها إما جهلاً وإما نسياناً.
ت: لو كان هذا الحديث صحيحاً لوجب على أبي بكر وعلى عمر أن يمحوا الأحاديث محواً لا يحرقاها حرقاً.
ث: لو صح هذا الحديث فالمسلمون من عهد عمر بن عبد العزيز الى يوم الناس هذا كلهم آثمون لأنهم خالفوا نهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رأسهم عمر بن عبد العزيز الذي أمر العلماء في عهده بتدوين الأحاديث وكتابتها، والبخاري ومسلم اللذان يصححان هذا الحديث ثم بعصيانه ويكتبان ألوف الأحاديث عن النبي.
ج: وأخيراً لو صح هذا الحديث لما غاب عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب الذي جمع أحاديث النبي في صحيفة طولها سبعون ذراعاً ويسميها الجامعة (وسيأتي الكلام عنها لاحقاً بحول الله).
ثانياً: عمل الحكام الأمويون على التأكيد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير معصوم عن الخطأ وهو كغيره من البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويروون في
____________
(1) صحيح مسلم ج 8، ص 229 كتاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
ذلك عدة أحاديث. والغرض من وضع تلك الأحاديث هو التأكيد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد برأيه فكان كثراً ما يخطئ مما حدا ببعض الصحابة أن يصوب رأيه، كما جاء ذلك في قضية تأبير النخل ونزول آية الحجاب، والاستغفار للمنافقين، وقبول الفدية من اسرى بدر، وغير ذلك مما يدعيه «أهل السنة والجماعة» في صحاحهم وما يعتقدونه في صاحب الرسالة (عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام).
ونحن نقول لأهل السنة والجماعة:
إذا كان هذا هو ديدنكم وهذا هو اعتقادكم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف تدعون التمسك بسنته، وسنته عندكم وعند أسلافكم غير معصومة، بل غير معلومة ولا مكتوبة ؟(1)
على أننا نرد على هذه المزاعم والأكاذيب وندجضها من نفس كتبكم وصحاحكم(2) .
فهذا الإمام البخاري يخرج في صحيحه من كتاب العلم وفي باب كتابة العلم، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب(3) .
ويستفاد من هذه الرواية بأن هناك من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كان يكتب أحاديثه، وإذا كان أبو هريرة يروي أكثر من ستة آلاف حديث عن النبي شفاهياً فإن عبد الله بن عمرو بن العاص فاق هذا العدد كتابياً ولذلك اعترف أبو هريرة بأن عبد الله بن عمرو أكثر منه أحاديث عن النبي لأنه كان يكتب ولا شك بأن هناك في الصحابة كثيرين ممن كانوا يكتبون عن النبي أحاديثه ولم يذكرهم أبو هريرة لعدم اشتهارهم بكثرة الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1) لأن تدوين السنة النبوية تأخر إلى زمن عمر بن عبد العزيز أو بعده، أما الخلفاء والحكام الذين حكموا قبله فقد أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدث بها.
(2) الغريب أن أهل السنة كثراً ما يروون الحديث ونقيضه في نفس الكتاب، والأغرب من ذلك أنهم كثيراً ما يعملون بما هو مكذوب ويهملون ما هو صحيح.
(3) صحيح البخاري ج 1 ص 36 باب كتابة العلم.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب الذي كان ينشر من فوق المنبر صحيفة يسميها الجامعة، جمع فيها كل ما يحتاجه الناس من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد توارثها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكثراً ما تحدثوا عنها.
فقد قال الإمام جعفر الصادق:
«إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي بيده، ما من حلال ولا حرام وما من شيء يحتاج إليه الناس وليس قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش»(1) .
وقد أشار البخاري نفسه في صحيحه إلى هذه الصحيفة التي كانت عند علي في عدة أبواب من كتابه، ولكنه وكما عودنا البخاري فإنه أبتر الكثير من خصائصها ومضمونها.
قال البخاري في باب كتابة العلم:
«عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟
قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجلاً مسلماً أو ما في هذه الصحيفة.
قال: قلت: وما في هذه الصحيفة ؟
قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر»(1) .
كما جاء في صحيح البخاري في موضع آخر قوله:
«عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم»(1) .
كما جاء في موضع آخر من صحيح البخاري قوله:
عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي فقال: «ما عندنا كتاب نقرأه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة»(1) .
وينقل البخاري في باب آخر من صحيحه قوله:
عن علي (رضي الله عنه) قال: «ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة»() .
كما أخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه قوله:
عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي (رضي الله عنه) على منبر من أجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: «والله ما عندنا كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة»(3) .
ولم ينقل البخاري ما قاله الإمام جعفر الصادق من أن الصحيفة تسمى الجامعة لأنها جمعت كل حلال وكل حرام، وفيها كل ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي بن أبي طالب. فاختصرها بقوله مرة: بأن فيها العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر، ومرة أخرى بقوله: فنشرها علي فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم … وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة … وإذا فيها من والى قوماً بغير إذن مواليه..
إنه التزوير والتعتيم على الحقائق، وإلا هل يعقل أن يكتب علي هذه الكلمات الأربعة في صحيفة ويعلقها على سيفه وتلازمه عندما يخطب من فوق المنبر ويجعل منها المرجع الثاني بعد كتاب الله فيقول للناس: ما كتبنا عن النبي إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ؟ ؟ !
وهل كان عقل أبي هريرة أكبر من عقل علي بن أبي طالب إذ كان يحفظ عن رسول الله مائة ألف حديث من غير كتابة ؟
____________
(1) صحيح البخاري ج 4، ص 67 وصحيح مسلم ج 4 ص 115.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 69.
(3) صحيح البخاري ج 8 ص 144.
عجيب والله أمر هؤلاء الذين يقبلون مائة ألف حديث عن أبي هريرة الذي لم يصحب النبي إلا ثلاث سنوات وكان يجهل القراءة والكتابة ويزعمون بأن عليا باب مدينة العلم الذي تعلم منه الصحابة شتى العلوم والمعارف، كان يحمل صحيفة فيها أربعة أحاديث ظلت تلازمه من حياة الرسول إلى ايام خلافته فيصعد بها على المنبر وهي معلقة على سيفه ؟ كبرت كلمة تخرج من أقواههم إن يقولون إلا كذباً.
على أن في ما أخرجه البخاري كفاية للباحثين والعقلاء، وذلك عندما ذكر بأن فيها العقل، فهو دليل بأن في الصحيفة أشياء كثيرة تخص العقل البشري والفكر الإسلامي.
ونحن لا نريد إقامة الدليل على ما في الصحيفة، فأهل مكة أدرى بشعابها وأهل البيت أدرى بما فيه وقد قالوا بأن فيها كل ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش.
ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو أن الصحابة كانوا يكتبون أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقول أبي هريرة بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب أحاديث النبي، وقول علي بن أبي طالب: ما كتبنا عن رسول الله إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، كما جاء في صحيح البخاري، هو دليل قاطع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن كتابة أحاديثه أبداً،بل العكس هو الصحيح
من كتاب " لاكون مع الصادقين للتيجاني السماوي